صعدت كوكب الشرق ام كلثوم (1902- 1975) السلم الاجتماعي من اسفله الى اعلى درجاته، وهو الامر الذي لم تعرفه المجتمعات العربية التقليدية المحافظة بصورة عامة. في مقالة له عن ام كلثوم في ذكرى وفاتها الخامسة والثلاثين، نشرت في عدد الربيع الجاري من المجلة الفصلية" شؤون عربية"، يقول المايسترو سليم سحاب، ان ام كلثوم تلك الفلاحة كانت تنتقل على حمارها هي وابوها واخوها من قرية الى قرية، لاحياء حفلات مقابل العشاء كان الكثير منها ينتهي بالغائها من دون ان تعرف ام كلثوم قبل وصولها، فترجع الى قريتها طماي الزهايرة من دون ان تاكل، مضيفا انها بقيت تحيا على هذا النحو الى ان انتقلت مع ذويها ، عام 1923 بناء على نصيحة الملحن ابي العلا محمد.
في القاهرة تدرجت ام كلثوم في السلم الاجتماعي حتى حصلت على لقب "صاحبة العصمة" وهو لقب لم يكن يعطى الا للاميرات واعضاء العائلة المالكة، اما حينما تحول النظام الملكي الى جمهوري في بلادها مصر، فقد قويت علاقتها بالزعيم العربي المصري جمال عبد الناصر حتى ان الغرب وصفها بانها اخطر سلاح بيد عبد الناصر.
شرعت ام كلثوم في الغناء وهي لما تزل في الثالثة عشرة من عمرها، ولم يكن طريق الشهرة والتربع على عرش الغناء سهلا على تلك الفتاة القادمة من الريف المصري، فقد كانت القاهرة، كما يقول سليم سحاب، معقلا لمطربين مشهورين وكانت الريادة لها، واذا كان المطربون لا يشكلون منافسة حقيقية لمطربة، فقد كانت المنافسة الحقيقية بين ام كلثوم وبين مطربتين من اهم الاصوات، ليس في وقتها فحسب، بل في تاريخ الغناء العربي في مصر: سلطانة الطرب منيرة المهدية، ومطربة القطرين فتحية احمد.
كان اول لحن غنته ام كلثوم في القاهرة للملحن الهاوي طبيب الاسنان احمد صبري النجريدي، ومن بين ما لحنه لها اغنية" الخلاعة والدلاعة مذهبي":
الخلاعة والدلاعة مذهبي من زمان اهوى صفاها والنبي
غير ان لقاءها بالشاعر الذي سيرافقها حتى يومها الاخير، باغنية والصب تفضحه عيونه، احدث تحولا في مسيرتها الغنائية، فاستفادت من رامي الذي سيصبح فيما بعد مرشدها للتعرف على كنوز الشعر العربي بشقيه القديم والحديث، ولعل هذه مناسبة ملائمة للكشف عن جذور تلك الذائقة الراقية التي ميزت ام كلثوم في اختيارها لما ستقدمه من اغان طوال مسيرتها الغنية الثرية بالعطاء.
غنت ام كلثوم لعدد وفير من ابرز شعراء فترتها في طليعتهم احمد رامي، ابراهيم ناجي احمد شفيق كامل وسواهم من الشعراء، ولحن لها العديد من الملحنين البارزين منهم: زكريا احمد، محمد القصبجي، رياض السنباطي، اضافة الى محمد الموجي، كمال الطويل، سيد مكاوي، بليغ حمدي ومحمد عبد الوهاب. ومن ابرز اغانيها " الاطلال" من شعر ابراهيم ناجي، و"رباعيات الخيام" من ترجمة احمد رامي.
يعتبر صوت ام كلثوم من الاصوات النادرة، ذلك ان مساحته واسعة جدا وتمتد على " ديوانين كاملين"، ومنذ العشرينيات من القرن الماضي حتى اعتزالها عام 1973، بعد اغنيتها الاخيرة" حكم علينا الهوى"، كانت مساحات صوتها تتداخل مع مساحات الاصوات الرجالية، وهو امر نادر. يقول سليم سحاب ويضيف، ان الاهم من هذه المساحة هو تملك ام كلثوم المطلق بها، ذلك انها بهذا التملك كانت تؤدي جملا موسيقية في غاية الصعوبة وتقفز بصوتها ابعادا فجائية، اصبحت مستحيلة في عصرنا هذا، بالاضافة الى ملكتها في الارتجال الغنائي الى جانب الزخارف والتحليات الغنائية (العـُرب) التي كانت تصل بادائها الى حد الاعجاز. يضاف الى هذا ان ام كلثوم غنت على مدى نحو الستين عاما- من سن الثالثة عشرة حتى سن الواحدة والسبعين- وهذه هي الاستمرارية الاولى في تاريخ الغناء في العالم، فالغناء الاوروبي لم يعرف مغنيا استمر اكثر من اربعين عاما في الغناء وهي فترة نادرة جدا بحد ذاتها.
يقول سليم سحاب في مقالته عن ام كلثوم في ذكراها، ان تجربة علمية على الكومبيوتر لقياس نسبة" النشاز في صوت ام كلثوم، اقيمت عام وفاتها 1975، في القاهرة، اظهرت نتيجة مذهلة، مفادها ان نسبة النشاز في صوتها كانت واحدا على الالف من البعد الطنيني الكامل، ويضيف انه لفهم هذا الكلام نقول ان اقصى ما تسمعه الاذن البشرية هو واحد على تسعة من البعد الطنيني الكامل ويسمى في علوم الموسيقى" كوما" وهذا ما يعني ان نظافة صوت ام كلثوم مطلقة.