منذ قرون، عرض العديد من السياسيين والأدباء الأوروبيين فكرة إنشاء محكمة دولية لفض الخلافات والنزاعات بين الدول وإعادة السلم لأوروبا التي مزقتها الحروب. وبمؤتمر لاهاي للسلام عام 1899، شهد العالم نشأة محكمة التحكيم الدائمة التي كلفت أساسا بالنظر في قضايا النزاعات والخلافات بين الدول. وبمؤتمر لاهاي للسلام عام 1907، شهد العالم ظهور اتفاقية بين مختلف الدول المجتمعة، لضبط جدول أعمال المحكمة وتحديد أهدافها ومهامها. إلى ذلك، لم تتمكن محكمة التحكيم الدائمة من منع اندلاع الحرب العالمية الأولى عقب حادثة اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند (Franz Ferdinand). ومع نهاية هذا الصراع العالمي، اتجهت الدول المنتصرة لإنشاء محكمة دولية أخرى ذات مهام وصلاحيات أكبر.

نشأة محكمة العدل الدولية الدائمة
عقب مؤتمر باريس للسلام عام 1919 الذي أنهى الحرب العالمية الأولى، سجل العالم ظهور منظمة عصبة الأمم التي مثلت منظمة أمن دولية كلفت بالحفاظ على السلام العالمي. وبناء على المادة الرابعة عشرة من ميثاق عصبة الأمم، كلفت هذه المنظمة، خلال شهر حزيران/يونيو 1920، بمهمة إنشاء محكمة دولية.

وخلال نفس الفترة، قامت لجنة استشارية من الحقوقيين، عينتها منظمة عصبة الأمم، بوضع مبادئ توجيهية أولية لعملية تعيين القضاة بهذه المحكمة الدولية. فضلا عن ذلك، قامت هذه اللجنة بصياغة دستور لمحكمة تمثلت مهامها الأساسية في تحقيق العدالة بين الدول. وبجنيف يوم 13 كانون الأول/ديسمبر 1920، تم رسميا قبول النظام الأساسي لعمل هذه المحكمة ليشهد بذلك العالم ولادة محكمة العدل الدولية الدائمة.

وفي الأثناء، انعقدت أعمال أول اجتماع لهذه المحكمة يوم 30 يناير 1922 بقصر السلام بلاهاي. وخلال الجلسة الأولى، تم تحديد جدول أعمال المحكمة وتعيين المسؤولين بها. وبالمحكمة، جلس تسعة قضاة لجانب ثلاثة نواب. فضلا عن ذلك، انتخب القاضي الهولندي برنارد لودر (Bernard Loder) رئيسا للمحكمة، بينما عين المحامي والدبلوماسي السويسري ماكس هوبر (Max Huber) نائبا له. وأثناء السنة الأولى لعملها، أصدرت محكمة العدل الدولية الدائمة قرارات تعلقت بمعاهدة فرساي ومنظمة العمل الدولية.

انهيار المحكمة
منذ دورتها المنعقدة عام 1922 ولحدود العام 1940، تعاملت محكمة العدل الدولية الدائمة مع 29 نزاعا بين الدول وأصدرت 27 قرارا بشأنها. وإضافة لمساهمتها في توضيح القوانين الدولية، لعبت هذه المحكمة دوارا هاما في منع اندلاع حروب بين عدد من الدول. من جهة ثانية، لم تلتحق الولايات المتحدة الأميركية بمحكمة العدل الدولية الدائمة. فعلى الرغم من تأييدها المطلق لإنشائها، عجز رؤساء الولايات المتحدة الأميركية المتتالون، كولسن وهاردينغ وكوليدج وهوفر وروزفلت، في الحصول على أغلبية بالكونغرس لتأكيد التحاق واشنطن بها.

منذ صعود النازيين بألمانيا سنة 1933 وتزايد المشاكل المتعلقة بكل من اليابان وإيطاليا والاتحاد السوفيتي، شهد دور محكمة العدل الدولية الدائمة تراجعا واضحا حيث أصبحت الأخيرة عاجزة على فرض قراراتها. من ناحية أخرى، وضعت الحرب العالمية الثانية حدا لوجود هذه المحكمة. فخلال شهر كانون الأول/ديسمبر 1939، عقدت محكمة العدل الدولية الدائمة آخر اجتماعاتها العلنية، كما أصدرت خلال شباط/فبراير من العام التالي آخر قراراتها قبل أن يتم حلها بشكل رسمي سنة 1946 لتحل بدلا منها محكمة العدل الدولية.